خلال الفترة القليلة الماضية انصب اهتمام الصحافة وأجهزة الإعلام، داخل الولايات المتحدة، على مصرع الجندي الأميركي رقم ألفين في العراق· غير أن هذا الحدث المأساوي بحد ذاته لا يعطي من المبررات ما يكفي لتصعيد حملة العداء ضد الحرب الأميركية على العراق· فبعد 30 شهراً من العراك والقتال والمواجهات الدموية هناك، كان طبيعياً أن يدير معظم الأميركيين ظهورهم للحرب· هذا هو ما أكدته آخر استطلاعات الرأي العام الأميركي، التي كشفت عن اعتقاد نسبة 54 في المئة من الأميركيين، أن واشنطن ارتكبت خطأ بخوضها الحرب وإرسالها قوات إلى هناك· يلاحظ أن النسبة المذكورة قد ارتفعت مباشرة، قياساً إلى نسبة 24 في المئة فحسب، تبنت الاعتقاد ذاته في مارس ،2004 لحظة شن الحرب على العراق! وعليه فإن الدافع وراء تصاعد عداء ومعارضة الأميركيين للحرب، ليس هو الأعداد المحددة لصرعى وقتلى الحرب، إنما ما يرونه من استمرار وثبات لدمويتها وسفكها لدماء المزيد والمزيد من الضحايا المدنيين والعسكريين على حد سواء· والواقع أنه ليس في وسع التطورات الدراماتيكية التي تشهدها ساحات المعارك، التأثير على الدعم الشعبي الذي تحظى به الحرب، فيما لو كانت حرباً عادلة ومبررة أصلاً·
ولنا أن نقارن بهذه المناسبة، ما يحدث في الحرب الجارية الآن في العراق بما حدث في حرب فيتنام· فعلى رغم فداحة الخسائر التي تكبدتها القوات الأميركية في معركة ''تيت'' عام ،1968 فإن تلك الخسائر لم تعط إشارة للشارع الأميركي بأن الحرب لم تكن وقتها تسير على ما يرام· ولذلك فإن السند الشعبي للحرب لم ينحسر وقتها إلا بعد أن طال أمدها، وتبين أنها حرب خاسرة ولا مبرر لاستمرارها· أما بالنسبة لحرب العراق، فقد ارتفع التأييد الشعبي لها بعض الشيء، جراء القبض على صدام حسين، وعقب انعقاد أول انتخابات عراقية عقب سقوط النظام الديكتاتوري· غير أن هذا التأييد سرعان ما تراجع، عقب الكشف عن فضائح التعذيب وإساءة معاملة السجناء السياسيين في سجن أبوغريب وغيره· وكل هذا لم يكن سوى مد وجذر في نسبة التأييد الشعبي للحرب، التي عادة ما تعود إلى مستواها الثابت نسبياً، بعد أن تتأثر بهذا التطور أو ذاك في مجراها·
لكن وبالنظر إلى الحرب العراقية هذه، فإن الشيء غير المسبوق فيها، هو سرعة انحسار وتراجع التأييد الشعبي لها· والواضح أن قدرة تحمل الجمهور الأميركي لمآسي ضحاياها وقتلاها، أقل بكثير مما كانت عليه قدرة التحمل هذه في الحرب الفيتنامية، وهو ما تعكسه المقارنات بين استطلاعات الرأي العام الأميركي، إثر مصرع الجندي رقم 20 ألفاً في الحرب الفيتنامية، ومصرع الجندي رقم 2000 في الحرب العراقية اليوم!
ولدى ملاحظتنا للفارق الرقمي الكبير جداً بين 20 ألفاً وألفين، فإننا ندرك مدى تذمر وسخط الأميركيين من سقوط أي ضحية أميركي، في حرب تزداد الشكوك حول دوافعها ومبرراتها كل يوم، وقدرة تحملهم من الجانب الآخر، لما كان يرد من أخبار مأساوية سيئة عن مصرع المزيد من الجنود في حرب فيتنام، التي آمنوا واقتنعوا بأهميتها ومعناها في مواجهة الخطر الشيوعي في ذلك الوقت على الأقل·
إن انحسار التأييد الشعبي للحرب على العراق قد تواصل على امتداد العام الجاري ،2005 مع القليل جداً من التأرجح والعلو والهبوط النسبي في عدد المؤيدين والمعارضين لها· من ذلك مثلاً نذكر ارتفاع عدد المؤيدين على إثر التفجيرات والهجمات التي تعرضت لها العاصمة البريطانية لندن، ربما بدافع الخوف من أن تتكرر العمليات الإرهابية نفسها هنا في أميركا· بيد أن تلك الهجمات هزمت منطق إدارة بوش القائل إن الإرهابيين منشغلون بمعركتهم الأساسية في العراق، وإنه ليس في مقدورهم شن عمليات وهجمات جديدة في أنحاء أخرى من العالم! ويحدو إدارة بوش أمل في عكس هذا الانحسار المتواصل للتأييد الشعبي للحرب، عن طريق الخطب الحماسية التي تزعم إحراز تقدم ملحوظ وواضح في العراق· ولكن يجب القول إن النهج ذاته كان قد سبق له أن استخدم في حرب فيتنام، إلا أنه لم يعد بمردود يذكر لصالح الحرب· وتكمن المشكلة في أن الذين عارضوا الحرب منذ البداية قد ظلوا على مواقفهم وتستحيل زحزتهم منها الآن، في حين يصعب إثناء الذين أحبطوا من مؤيديها، بعد شنها وتورط البلاد في مستنقعها حسبما تفيد الأخبار اليومية الواردة من العراق·
والشاهد اليوم أن معارضة الحرب على العراق ليست متصاعدة وفي اتساع مطرد فحسب، وإنما تشتد ضراوتها وقوتها أيضاً· وليس أدل على ذلك من تأكيد ما يزيد على نسبة 80 في المئة من المعارضين لها على أنهم يعارضونها بــ''شدة''، في حين أكد ما يزيد على نصفهم أنهم ''غاضبون'' عليها وليست المسألة بالنسبة لهم مجرد عدم رضا وشعور بالإحباط فحسب! وأكثر من ذلك فقد أفاد التحليل المقارن الذي أجراه ''جاري جاكسون'' بجامعة كاليفورنيا بسان دييجو أن الانقسام الحزبي حول الرئيس بوش وحربه على العراق، هو الانقسام الأكبر الذي تشهده أميركا في عهد أي من رؤسائها السابقين، أو في أي نزاع عسكري خاضته القوات الأميركية